فصل: تفسير الآيات (13- 19):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال أبو السعود في الآيات السابقة:

{إِذَا السماء انفطرت} أي انشقتْ لنزول الملائكةِ، كقوله تعالى: {وَيوم تَشَقَّقُ السماء بالغمام وَنُزّلَ الملائكة تَنزِيلاً} وقوله تعالى: {وَفُتِحَتِ السماء فَكَانَتْ أبوابا} والكلامُ في ارتفاع السماءِ كما مرَّ في ارتفاعِ الشمسِ {وَإِذَا الكواكب انتثرت} أي تساقطتْ متفرقةً {وَإِذَا البحار فجرت} فُتحَ بعضُها إلى بعضٍ فاختلطَ العذبُ بالأُجاجِ وزالَ ما بينهما من البرزخ الحاجزِ وصارتِ البحارُ بَحْراً واحدًّا ورُويَ أن الأرضَ تنشفُ الماءَ بعد امتلاءِ البحارِ فتصيرُ مستويةً وهو مَعْنى التسجيرِ عند الحسنِ رضيَ الله عنه، وقيلَ: إنَّ مياه البحارِ الآنَ راكدةٌ مجتمعةٌ فإذَا فجرت تفرقتْ وذهبتْ وقرئ {فجرت} بالتخفيفِ مبنياً للمفعولِ وَمبنياً للفاعلِ أيضاً بمْعَنى بغتْ من الفجورِ نظراً إلى قوله تعالى: {لاَّ يَبْغِيَانِ} {وَإِذَا القبور بُعْثِرَتْ} أي قُلبَ ترابُها وأُخرجَ موتاهَا ونظيرُه بَحْثر لفظاً ومَعْنى وهُما مركبانِ من البعثِ والبحثِ مع راءٍ ضُمَّتْ إليهمَا. وقوله تعالى: {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ وَأخرت} جوابُ إذا لكنْ لاَ على أنَّها تعلمُه عندَ البعثِ بل عند نشرِ الصحف لما عرفتَ من أنَّ المرادَ بها زمانٌ واحدٌ مبدؤُه النفخةُ الأُولى ومنتهاهُ الفصلُ بينَ الخلائقِ لا أزمنةٌ حسب تعددِ كلمةِ إذَا وإنما كُررتْ لتهويلِ ما في حيزهَا من الدَّواهِي، والكلامُ فيَها كالذي مرَّ تفصيلُه في نظيرِهما ومَعْنى ما قَدَّم وأخَّر ما أسلفَ من عملِ خيرٍ أو شرَ وأخَّر من سُنَّةٍ حسنةٍ أو سيئةٍ يُعملُ بها بعدَهُ قاله ابنُ عباسٍ وابنُ مسعودٍ، وعن ابن عباسٍ أيضاً ما قدمَ منْ معصيةٍ وأخَّر من طاعةٍ وهو قول قتادةٍ وقيلَ: ما قدمَ من أمواله لنفسه وما أخَّر لورثته، وقبل ما قدَّم من فرض وأخَّر من فرض، وقيل: أولُ عملِه وآخرُهُ ومعنى علمِها بهما علمُها التفصيليُّ حسبما ذُكِرَ فيَما مرَّ مراراً.
{يا أيها الإنسان مَا غَرَّكَ بِرَبّكَ الكريم} أيْ أيُّ شيءٍ خدعكَ وجرَّأك على عصيانِه وقد علمتَ ما بينَ يديكَ من الدواهِي التامَّةِ والعراقيلِ الطَّامة وما سيكونُ حينئذٍ من مُشاهدةِ أعمالِك كُلِّها. والتعرضُ لعنوانِ كرمِه تعالى للإيذانِ بأنَّه ليسَ مما يصلُح أن يكونَ مداراً لاغترارِه حسبَما يغويهِ الشيطانُ ويقول له افعلْ ما شئتْ فإنَّ ربكَ كريمٌ قد تفضلَ عليكَ في الدُّنيا وسيفعلُ مثَلُه في الآخرةِ فإنَّه قياسٌ عقيمٌ وتمنيةٌ باطلةٌ بل هُو ممَّا يوجبّ المبالغةَ في الإقبالِ على الإيمانِ والطاعةِ والاجتنابِ عن الكفرِ والعصيانِ كأنَّه قيلَ: ما حملكَ على عصيانِ ربِّكَ الموصوفِ بالصفاتِ الزاجرةِ عنهُ الداعيةِ إلى خلافِه.
وقوله تعالى: {الذى خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فعدلك} صفةٌ ثانيةٌ مقررةٌ للربوبيةِ مبيَّنة للكرم منبهةٌ على أنَّ منْ قدرَ على ذلكَ بدَءاً قدرَ عليه إعادةً، والتسويةُ جعلُ الأعضاءِ سليمةً سويةً مُعدةً لمنافعها وعدلها عدلَ بعضِها ببعضٍ بحيثُ اعتدلتْ وَلَم تتفاوتْ أو صَرْفُها عن خِلْقةٍ غيرِ ملائمةٍ لها.
وقرئ {فعدلك} بالتشديدِ أيْ صيَّركَ مُعتدلاً متناسبَ الخلقِ من غير تفاوتٍ فيه.
{في أي صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَكَ} أي ركبكَ في أيَّ صورةٍ شاءَهَا من الصور المختلفةِ و{مَا} مزيدةٌ و{شاءَ} صفةٌ لـ: {صورةٍ} أي ركبكَ في أيِّ صورةٍ شاءَها واختارَها لكَ من الصورِ العجيبةِ الحسنةِ كقوله تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان في أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} وإنما لَمْ يعطف الجملة على ما قبلَها لأنها بيانٌ لعدلك.
{كَلاَّ} ردعٌ عن الاغترارِ بكرمِ الله تعالى وجعلِه ذريعةً إلى الكفرِ والمعاصِي مع كونِه موجباً للشكرِ والطاعةِ وقوله تعالى: {بَلْ تُكَذّبُونَ بالدين} إضرابٌ عن جملة مقدرةٍ ينساقُ إليها الكلامُ كأَّنه قيلَ بعد الردعِ بطريق الاعتراضِ وأنتم لا ترتدعونَ عن ذلكَ بل تجترئونَ على أعظمِ من ذلكَ حيثُ تكذبونَ بالجزاءِ والبعثِ رأساً أو بدينِ الإسلامِ الذي هُما من جملة أحكامِه فلا تصدقونَ سؤالاً ولا جواباً ولا ثواباً ولا عقاباً وقيلَ: كأنه قيل إنكْم لا تستقيمونَ على ما توجبُه نِعَمِي عليكُم وإرشادِي لكُم بل تكذبونَ إلخ وقال القفالُ: ليسَ الأمرُ كَما تقولونَ من أنَّه لا بعثَ ولا نشورَ ثم قيلَ: أنتُم لا تتبينونَ بهذا البيانِ بل تكذبونَ بيوم الدينِ. وقوله تعالى: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لحافظين} حالٌ من فاعلِ {تكذبونَ} مفيدةٌ لبطلانِ تكذيبِهم وتحققِ ما يكذبونَ بهِ أي تكذبونَ بالجزاءِ والحالُ أنَّ عليكُم من قبلِنا {لحافظينَ} لأعمالِكم {كِراماً} لدينَا {كاتبين} لَها {يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} من الأفعالِ قليلاً وكثيراً ويضبطونَهُ نَقيراً وقِطْميراً لتجازوا بذلكَ وفي تعظيمِ الكاتبينِ بالثناءِ عليهم تفخيمٌ لأمرِ الجزاءِ وأنه عندَ الله عزَّ وجلَّ من جلائلِ الأمورِ حيثُ يستعملُ فيه هؤلاءِ الكرامَ. اهـ.

.تفسير الآيات (13- 19):

قوله تعالى: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14) يَصْلَوْنَهَا يوم الدِّينِ (15) وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغائبين (16) وَمَا أَدْرَاكَ مَا يوم الدِّينِ (17) ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يوم الدِّينِ (18) يوم لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يومئِذٍ لِلَّهِ (19)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما كانت نتيجة حفظ الأعمال الجزاء عليها، أنتج ذلك بيان ما كانت الكتابة لأجله تفريقاً بين المحسن والمسيء الذي لا يصح في حكمة حكيم ولا كرم كريم غيره بقوله على سبيل التأكيد، لأجل تكذيبهم: {إن الأبرار} أي العاملين بما هو واسع لهم مما يرضي الله جلت قدرته {لفي نعيم} أي محيط بهم لا ينفك عنهم ولا ينفكون عنه أصلاً في الدنيا في نعيم الشهود، وفي الآخرة في نعيم الرؤية والوجود في هذه الدار معنىً وفي الآخرة حساً، فكل نعيم في الجنة لهم من المنح الآجلة فرقائقه في هذه الدنيا لهم عاجلة {وإنّ الفجار} أي الذي شأنهم الخروج مما ينبغي الاستقرار فيه من رضا الله إلى سخطه {لفي جحيم} أي نار تتوقد غاية التوقد يصلون بها جحيم العقوبة الفظيعة كما كانوا في الدنيا في جحيم البعد والقطيعة.
ولما كان السياق للترهيب، وصف عذاب الفجار فقال: {يصلونها} أي يغمسون فيها كالشاة المصلية فيباشرون حرها {يوم الدين} أي الجزاء على الأعمال المضبوطة على مثاقيل الذر.
ولما كان العذاب على ما نعهده لابد أن ينقضي، بين أن عذابه على غير ذلك فقال: {وما} أي والحال أنهم ما {هم عنها} أي الجحيم {بغائبين} أي بثابت لهم غيبة ما عنها في وقت ما، بل هم فيها خالدون جزاء لأعمالهم وفاقاً وعدلاً طباقاً حتى الآن في دار الدنيا وإن كانوا لا يحسون بها إلا بعد الموت لأن الناس نيام، فإذا ماتوا انتبهوا.
ولما علم أن الوعيد الأعظم يوم الدين، هول أمره بالسؤال عنه إعلاماً بأنه أهل لأن يصرف العمر إلى الاعتناء بأمره والسؤال عن حقيقة حاله سؤال إيمان وإذعان لا سؤال كفران وطغيان، ليكون أقعد في الوعيد به فقال: {وما أدراك} أي أعلمك وإن اجتهدت في طلب الدراية به {ما يوم الدين} أي أيّ شيء هو في طوله وأهواله وفظاعته وزلزاله.
ولما كانت أهواله زائدة على الحد، كرر ذلك السؤال لذلك الحال فقال معبراً بأداة التراخي زيادة في التهويل: {ثم ما أدراك} أي كذلك {ما يوم الدين}.
ولما بين أنه من العظمة بحيث لا تدركه دراية دار وإن عظم وإن اجتهد، لخص أمره في شرح ما يحتمله العقول منه على سبيل الإجمال دافعاً ما قد يقوله بعض من لا عقل له: إن كان انضممت والتجأت إلى بعض الأكابر وقصدت بعض الأماثل فأخلص قهراً أو بشفاعة ونحوها، فقال مبدلاً من {يوم الدين} في قراءة ابن كثير والبصريين بالرفع: {يوم} وهو ظرف، قال الكسائي: العرب تؤثر الرفع إذا أضافوا الليل واليوم إلى مستقبل، وإذا أضافوا إلى فعل ماض آثروا النصب {لا تملك} أي بوجه من الوجوه في وقت ما {نفس} أيّ نفس كانت من غير استثناء، ونصبه الباقون على الظرف، ويجوز أن تكون الفتحة للبناء لإضافته إلى غير متمكن {لنفس شيئاً} أي قل أو جل، وهذا وإن كان اليوم ثابتاً لكنه في هذه الدار بطن سبحانه في الأسباب، فتقرر في النفوس أن الموجودين يضرون وينفعون لأنهم يتكلمون ويبطشون، وأما هناك فالمقرر في النفوس خلاف ذلك من أنه لا يتكلم أحد إلا بإذنه إذناً ظاهراً، ولا يكون لأحد فعل ما إلا بإذنه كذلك، فالأمر كله له دائماً، لكن اسمه الظاهر هناك ظاهر واسمه الباطن هذا مقرر لموجبات الغرور.
ولما كان التقدير: فلا أمر لأحد من الخلق أصلاً، لا ظاهراً ولا باطناً، عطف عليه قوله: {والأمر} أي كله {يومئذ} أي إذ كان البعث للجزاء {لله} أي مختص به لا يشاركه فيه مشارك ظاهراً كما أنه لا يشاركه فيه باطناً، ويحصل هناك الكشف الكلي فلا يدعي أحد لأحد أمراً من الأمور بغير إذن ظاهر خاص، وتصير المعارف بذلك ضرورية، فلذلك كان الانفطار والزلازل الكبار، والإحصاء لجميع الأعمال الصغار والكبار، وقد رجع أخرها كما ترى إلى أولها، والتف مفصلها بموصلها- والله الهادي للصواب. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

النوع الثالث: من تفاريع مسألة الحشر قوله تعالى: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13)}
اعلم أن الله تعالى لما وصف الكرام الكاتبين لأعمال العباد ذكر أحوال العاملين فقال: {إِنَّ الأبرار لَفِي نَعِيمٍ} وهو نعيم الجنة {وَإِنَّ الفجار لَفِي جَحِيمٍ} وهو النار، وفيه مسألتان:
المسألة الأولى:
أن القاطعين بوعيد أصحاب الكبائر تمسكوا بهذه الآية، فقالوا: صاحب الكبيرة فاجر، والفجار كلهم في الجحيم، لأن لفظ الجحيم إذا دخل عليه الألف واللام أفاد الاستغراق والكلام في هذه المسألة قد استقصيناه في سورة البقرة، وههنا نكت زائدة لابد من ذكرها: قالت الوعيدية حصلت في هذه الآية وجوه دالة على دوام الوعيد أحدها: قوله تعالى: {يَصْلَوْنَهَا يوم الدين} ويوم الدين يوم الجزاء ولا وقت إلا ويدخل فيه، كما تقول يوم الدنيا ويوم الآخرة الثاني: قال الجبائي: لو خصصنا قوله: {وَإِنَّ الفجار لَفِي جَحِيمٍ} لكان بعض الفجار يصيرون إلى الجنة ولو صاروا إليها لكانوا من الأبرار وهذا يقتضي أن لا يتميز الفجار عن الأبرار، وذلك باطل لأن الله تعالى ميز بين الأمرين، فإذن يجب أن لا يدخل الفجار الجنة كما لا يدخل الأبرار النار والثالث: أنه تعالى قال: {وَمَا هُمَ عَنْهَا بِغائبين} وهو كقوله: {وَمَا هُم بخارجين مِنْهَا} [المائدة: 37] وإذا لم يكن هناك موت ولا غيبة فليس بعدهما إلا الخلود في النار أبد الآبدين، ولما كان اسم الفاجر يتناول الكافر والمسلم صاحب الكبيرة ثبت بقاء أصحاب الكبائر أبداً في النار، وثبت أن الشفاعة للمطيعين لا لأهل الكبائر والجواب عنه: أنا بينا أن دلالة ألفاظ العموم على الاستغراق دلالة ظنية ضعيفة والمسألة قطعية.
والتمسك بالدليل الظني في المطلوب القطعي غير جائز، بل هاهنا ما يدل على قولنا: لأن استعمال الجمع المعرف بالألف واللام في المعهود السابق شائع في اللغة، فيحتمل أن يكون اللفظ هاهنا عائداً إلى الكافرين الذين تقدم ذكرهم من المكذبين بيوم الدين، والكلام في ذلك قد تقدم على سبيل الاستقصاء، سلمنا أن العموم يفيد القطع، لكن لا نسلم أن صاحب الكبيرة فاجر، والدليل عليه قوله تعالى في حق الكفار: {أُوْلَئِكَ هُمُ الكفرة الفجرة} [عبس: 42] فلا يخلو إما أن يكون المراد {أُوْلَئِكَ هُمُ الكفرة} الذين يكونون من جنس الفجرة أو المراد {أُوْلَئِكَ هُمُ الكفرة} وهم {الفجرة} والأول: باطل لأن كل كافر فهو فاجر بالإجماع، فتقييد الكافر بالكافر الذي يكون من جنس الفجرة عبث، وإذا بطل هذا القسم بقي الثاني، وذلك يفيد الحصر، وإذا دلت هذه الآية على أن الكفار هم الفجرة لا غيرهم، ثبت أن صاحب الكبيرة ليس بفاجر على الإطلاق، سلمنا إن الفجار يدخل تحته الكافر والمسلم، لكن قوله: {وَمَا هُمَ عَنْهَا بِغائبين} معناه أن مجموع الفجار لا يكونون غائبين، ونحن نقول بموجبه: فإن أحد نوعي الفجار وهم الكفار لا يغيبون، وإذا كان كذلك ثبت أن صدق قولنا إن الفجار بأسرهم لا يغيبون، يكفي فيه أن لا يغيب الكفار، فلا حاجة في صدقه إلى أن لا يغيب المسلمون، سلمنا ذلك لكن قوله: {وَمَا هُمَ عَنْهَا بِغائبين} يقتضي كونهم في الحال في الجحيم وذلك كذب، فلابد من صرفه عن الظاهر، فهم يحملونه على أنهم بعد الدخول في الجحيم يصدق عليهم قوله: {وَمَا هُمَ عَنْهَا بِغائبين} ونحن نحمل ذلك على أنهم في الحال ليسوا غائبين عن استحقاق الكون في الجحيم، إلا أن ثبوت الاستحقاق لا ينافي العفو، سلمنا ذلك لكنه معارض بالدلائل الدالة على العفو وعلى ثبوت الشفاعة لأهل الكبائر، والترجيح لهذا الجانب، لأن دليلهم لابد وأن يتناول جميع الفجار في جميع الأوقات، وإلا لم يحصل مقصودهم، ودليلنا يكفي في صحته تناوله لبعض الفجار في بعض الأوقات، فدليلهم لابد وأن يكون عاماً، ودليلنا لابد وأن يكون خاصاً والخاص مقدم على العام، والله أعلم.
المسألة الثانية:
فيه تهديد عظيم للعصاة حكي أن سليمان بن عبد الملك مر بالمدينة وهو يريد مكة، فقال لأبي حازم: كيف القدوم على الله غداً؟ قال: أما المحسن فكالغائب يقدم من سفره على أهله، وأما المسيء فكالآبق يقدم على مولاه، قال: فبكى، ثم قال: ليت شعري ما لنا عند الله! فقال أبو حازم: أعرض عملك على كتاب الله، قال: في أي مكان من كتاب الله؟ قال: {إِنَّ الأبرار لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الفجار لَفِي جَحِيمٍ} وقال جعفر الصادق عليه السلام: النعيم المعرفة والمشاهدة، والجحيم ظلمات الشهوات وقال بعضهم: النعيم القناعة، والجحيم الطمع، وقيل: النعيم التوكل، والجحيم الحرص، وقيل: النعيم الاشتغال بالله، والجحيم الاشتغال بغير الله تعالى.
النوع الرابع: من تفاريع الحشر تعظيم يوم القيامة، وهو قوله تعالى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يوم الدِّينِ (17)}.
وفيه مسائل:
المسألة الأولى:
اختلفوا في الخطاب في قوله: {وَمَا أَدْرَاكَ} فقال بعضهم: هو خطاب للكافر على وجه الزجر له، وقال الأكثرون: إنه خطاب للرسول، وإنما خاطبه بذلك لأنه ما كان عالماً بذلك قبل الوحي.
المسألة الثانية:
الجمهور على أن التكرير في قوله: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يوم الدين ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يوم الدين} لتعظيم ذلك اليوم، وقال الجبائي: بل هو لفائدة مجددة، إذ المراد بالأول أهل النار، والمراد بالثاني أهل الجنة، كأنه قال: وما أدراك ما يعامل به الفجار في يوم الدين؟ ثم ما أدراك ما يعامل به الأبرار في يوم الدين؟ وكرر يوم الدين تعظيماً لما يفعله تعالى من الأمرين بهذين الفريقين.
المسألة الثالثة:
في: {يوم لاَ تَمْلِكُ} قراءتان الرفع والنصب، أما الرفع ففيه وجهان:
أحدهما: على البدل من {يوم الدين}.
والثاني: أن يكون بإضمار هو فيكون المعنى هو يوم لا تملك، وأما النصب ففيه وجوه أحدها: بإضمار يدانون لأن {الدين} يدل عليه.
وثانيها: بإضمار اذكروا.
وثالثها: ما ذكره الزجاج يجوز أن يكون في موضع رفع إلا أنه يبنى على الفتح لإضافته إلى قوله: {لاَ تَمْلِكُ} وما أضيف إلى غير المتمكن قد يبنى على الفتح، وإن كان في موضع رفع أو جر كما قال:
لم يمنع الشرب منهم غير أن نطقت ** حمامة في غصون ذات أوقال

فبنى غير على الفتح لما أضيف إلى قوله إن نطقت، قال الواحدي: والذي ذكره الزجاج من البناء على الفتح إنما يجوز عند الخليل وسيبويه، إذا كانت الإضافة إلى الفعل الماضي، نحو قولك على حين عاتبت، أما مع الفعل المستقبل، فلا يجوز البناء عندهم، ويجوز ذلك في قول الكوفيين، وقد ذكرنا هذه المسألة عند قوله: {هذا يوم يَنفَعُ الصادقين صِدْقُهُمْ} [المائدة: 119].
ورابعها: ما ذكره أبو على وهو أن اليوم لما جرا في أكثر الأمر ظرفاً ترك على حالة الأكثرية، والدليل عليه إجماع القراء والعرب في قوله: {مّنْهُمُ الصالحون وَمِنْهُمْ دُونَ ذلك} [الأعراف: 168] ولا يرفع ذلك أحد.
ومما يقوي النصب قوله: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا القارعة يوم يَكُونُ الناس} [القارعة: 4 3] وقوله: {يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يوم الدين يوم هُمْ على النار يُفْتَنُونَ} [الذاريات: 13 12] فالنصب في {يوم لاَ تَمْلِكُ} مثل هذا.
المسألة الرابعة:
تمسكوا في نفي الشفاعة للعصاة بقوله: {يوم لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً} وهو كقوله تعالى: {واتقوا يوما لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا} [البقرة: 48] والجواب: عنه قد تقدم في سورة البقرة.
المسألة الخامسة:
أن أهل الدنيا كانوا يتغلبون على الملك ويعين بعضهم بعضاً في أمور، ويحمي بعضهم بعضاً، فإذا كان يوم القيامة بطل ملك بنى الدنيا وزالت رياستهم، فلا يحمي أحد أحدًّا، ولا يغني أحد عن أحد، ولا يتغلب أحد على ملك، ونظيره قوله: {والأمر يومئِذٍ لِلَّهِ} وقوله: {مالك يوم الدين} [الفاتحة: 4] وهو وعيد عظيم من حيث إنه عرفهم أنه لا يغني عنهم إلا البر والطاعة يومئذ دون سائر ما كان قد يغني عنهم في الدنيا من مال وولد وأعوان وشفعاء.
قال الواحدي: والمعنى أن الله تعالى لم يملك في ذلك اليوم أحدًّا شيئاً من الأمور، كما ملكهم في دار الدنيا.
قال الواسطي: في قوله: {يوم لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً} إشارة إلى فناء غير الله تعالى، وهناك تذهب الرسالات والكلمات والغايات، فمن كانت صفته في الدنيا كذلك كانت دنياه أخراه.
وأما قوله: {والأمر يومئِذٍ لِلَّهِ} فهو إشارة إلى أن البقاء والوجود لله، والأمر كذلك في الأزل وفي اليوم وفي الآخرة، ولم يتغير من حال إلى حال، فالتفاوت عائد إلى أحوال الناظر، لا إلى أحوال المنظور إليه، فالكاملون لا تتفاوت أحوالهم بحسب تفاوت الأوقات، كما قال: لو كشف الغطاء ما ازددت يقيناً، وكحارثة لما أخبر بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «كأني أنظر وكأني وكأني» والله سبحانه وتعالى أعلم.
والحمد لله رب العالمين. اهـ.